الاثنين، 4 يناير 2016

مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله - القرض الحسن

مَنْ ذا الَّذِي يُقرض الله - القرض الحسن

نص الموعظة القرانية:
قال الله تعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ1.
تمهيد
يُحيط القرآن بكلّ ما يحتاج إليه الإنسان في حياته، ويُهيّء له سُبلَ الوصولِ إلى أهدافهِ مهمَا تعدّدت تلك الأهداف، ومهما كثرت الصّعاب الّتي تُعيق حركة الإنسان في طريقه.
فإذا أراد الإنسان أن يُحاور أخيه الإنسان يُريه الله تعالى طُرق التّحاور فيقول له: ﴿وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ2، وإذا قرّر الإنسان القيام بعمل ما، فيقف القرآن مُنبِّهاً له: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ3، فالله يراقب أعمالنا، ويدعونا إلى العمل وفق القوانين الّتي يضعها لنا، وهكذا يحدّد لنا القرآن البوصلةَ الّتي تُنير لنَا درباً مُشْرَّعاً وواسعاً للوصول إلى الغايات المنشودة.

ويوطِّد القرآن عُرى الرّوابط الإنسانيّة بين النّاس، فيحُثّهم على التّعاون فيما بينهم حيث يقول: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ4.

القرض الحسن وآثاره الاجتماعية
القرآن الكريم دستورُ حياةٍ حقيقيّة، تَراه يُرصِّع لنَا مفاهيمَ مهمّة جداً لاستقامة حياة الإنسان، ومن هذه المفاهيم مفهوم (القرض الحسن).
قال تعالى: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ5.
وقال سبحانه: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ6.

لنحاول معاً أن نَغْرفَ من ينبوع المعرفة، فنرى ما هو معنى القرض؟ ولماذا رَبط الله القرض بذاته المقدّسة؟ وما هو القرض الحسن؟ وكيف يُضاعف أضعافاً كثيرة؟ ولماذا يُضاعف بهذه الأضعاف؟

القرض في اللّغة: ما يَتَجازَى به الناسُ فيما بينهم ويَتَقاضَوْنَه، وجمعه: قرُوضٌ، وهو ما أَسْلَفَه من إِحسانٍ، والقِرْضُ بالكسر، لغة فيه حكاها الكسّائيّ7.

وفي الاصطلاح الفقهي عبارة عن: "معروف أثبته الشارع إمتاعاً للمحتاجين مع ردّ عوضه في غير المجلس غالباً"8.

فالقرض فعل خيرٍ، يؤدّيه الإنسان مع أخيه، وهو من البلاء الحسن.

والقرض يأتي بمعنى القطع، يعني يقطتع المقرِض من نفسه وماله ما يربطه بالمقترض.

أقسام القرض
وقد قُسّم القرض إلى قسمين:
1- قرض حاجة: وهذا لا يُتصوَّر في حقّ الله تعالى، فهو الغنيّ المطلق غير المحتاج لأحدٍ، والكلّ محتاج إليه، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ9.

2- قرض ربحٍ: أي أنّ هذا المال المستَقرَض يرجع إلى المقرِض مع الرّبح الحلال، وهذا متصوّر في حقّه تعالى، وهو محور فكرة القرض الحسن، فيصرف المقرِض المالَ في المنافع العامّة، ومن ثمّ يعود النّفع إلى صاحبه، بشرط خضوعه للموازين الشّرعيّة.

والمعنى المراد في المقام: هو جميع ما يقدّمه الإنسان من أفعال خيّرة، ترجع منفعتها إلى النّفس أو المجتمع، وتعبيره تعالى بالقرض إنّما هو للتّنظير وتقريب الفكرة، وليس المراد القرض الاصطلاحيّ الّذي يُؤخذ لرفع الحاجة والعَوَز.

يُقرض الله تعالى
إنّما ارتبط القرض بالله تعالى في هذه الآيات الكريمة للحثّ والتّشجيع والتّرغيب على البذل والإنفاق في سبيل النّفس الإنسانيّة والمجتمع.

وتَتبيّنُ هذه الفكرة في قوله تعالى: ﴿وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ10. فهذه الآية توضّح لنا المراد من القرض الّذي يقدِّمه الإنسان إلى النّاس على صعيد الفرد والمجتمع.

والدّليل على هذا قوله تعالى: ﴿وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرً، من جهة كون القرض تقدمة لنفس المقرِض عبر مساعدته للآخرين، فالمنفعة الحقيقيّة هي لصاحب القرض، وليس لمن طلب القرض والمساعدة!!

ولمَّا كانت رغبة الإنسان في الإنفاق ضعيفة بشكل عامّ، حثّ الله تعالى الإنسان على الإنفاق، ورَبَط القرض بذاته المقدّسة كتشجيع على فعل الخير، والبذل والعطاء لوجهه عزّ وجلّ.

ومن الأدلّة، ما في الخبر الصّحيح، عن فضيل بن يسار، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ أَقْرَضَ مُؤْمِناً يَلْتَمِسُ بِهِ وَجْهَ اللهِ إِلَّا حَسَبَ الله لَهُ أَجْرَهُ بِحِسَابِ الصَّدَقَةِ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ"11.

فالمؤمن عندما يقرض الله تعالى، هو في حقيقة الأمر يقدّم لنفسه الخير والأجر الجزيل الّذي يفوق كلّ أجرٍ آخر، فيعتبر القرض كالصّدقة من جهة رجوع الصّدقة إلى صاحبها مضاعفة، كذلك القرض يرجع إلى صاحبه أضعافاً كثيرة، وهو في بعض الرّوايات يتخطّى الصدقة بثمانية أضعاف، فالصدقة بعشرة، والقرض بثمانية عشر!

ما هو القرض الحسن؟
كلّ قرض كان مُخلَصاً لله تعالى، أي: خالٍ عن الشوائب من الشرك، والرياء، والسّمعة، ومن المنِّ والأذى، وفيه الخير والمنفعة العامّة العائدة على الصّالح العامّ، فهو من القرض الحسن. من أجل ذلك علينا أن نتنبّه إلى كمائن الشّيطان الّذي لا يترك فرصة إلّا وينتهزهَا ليُوقِعنا في شرك الرّياء والسّمعة، فنقدّم المال لأجل أن نُذكر على المنابر، أو يقال انظروا إلى فلان وفلان ما الّذي قدّمه لبناء المسجد، وغير ذلك من الحبائل الّتي قد يَحيكها إبليس بطريقة يغفل الإنسان عنها!!

نعم، في بعض الأحيان قد يكون من باب التّشجيع للآخرين كي يقدّموا ويَبذلوا قروضاً حسنة، فهذا شيءٌ ممدوحٌ ومطلوب، ولكن لا بدّ من الاحتياط والالتفات إلى خدع الشّيطان الّتي تَقتنص كلّ فرصة لتسقطنا في حفر المعاصي والذّنوب، فنكون من الّذين يظنّون أنّهم يحسنون صنعاً، وما لهم في الآخرة من نصيب، قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعً12.

وفي هذا السّياق تُروى في سبب نزول آية الإقراض حادثة جرت مع النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحد أصحابه، وهو أبو الدّحداح، وفيها من العبر ما ينفعنا، فإليك خلاصتها وعبرها:
"لما نزل: "مَنْ ذَا الذي يقرض الله قرضاً حسناً" قال أبو الدحداح: فداك أبي وأمي يا رسول الله! إِنَّ الله يستقرضنا وهو غنيٌّ عن القرض؟
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم يريد أن يدخلكم الجنة به".
قال: "فإنّي إنْ أقرضتُ ربّى قرضاً يضمن لي به ولصبيتي الدحداحة معي الجنة؟"
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "نعم".
قال: "فناولني يدك"، فناوله رسوله الله صلى الله عليه وآله وسلم يده. فقال: "إِنَّ لي حديقتين إحداهما بالسافلة والأخرى بالعالية، والله لا أملك غيرهما، قد جعلتهما قرضاً لله تعالى".
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "اجعل إحداهما لله والأخرى دعها معيشة لك ولعيالك".
قال: "فأشهدك يا رسول الله أنّى قد جعلت خيرهما لله تعالى، وهو حائط فيه ستمائة نخلة".
قال: "إذاً يجزيك الله به الجنة".

فانطلق أبو الدحداح حتى جاء أمّ الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول:
هداكِ ربّي سبلَ الرشاد***إِلَى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائط بالوداد***إفقد مضى قرضاً إِلَى التناد
أقرضتُه اللهَ على اعتمادي***إبالطّوعِ لا منٌّ ولا ارتداد
إِلَّا رجاء الضعف في المعاد***إفارتحلي بالنفسِ والأولاد
والبرُّ لا شكّ فخير زاد***إقدّمه المرء إِلَى المعاد


قالت أمُّ الدحداح: رَبِحَ بيعك! بارك الله لك فيما اشتريت، ثم أجابته أمُّ الدحداح وأنشأت تقول:
بشّرك الله بخيرٍ وفرح مثلك أدّى ما لديه ونصح
قد متّع الله عيالي ومنح بالعجوةِ السوداء والزهو البلح
والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح


"ثمّ أقبلت أمُّ الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم، حتى أفضت إلى الحائط الآخر، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كم من عذق13 رداح ودار فياح (أي: واسع) لأبي الدحداح"14.

العبرة من القصّة
العِبر الّتي تستفاد من هذه الحادثة الحقيقيّة التي جرت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة نشير إِلَى أهمّها:
- الغِنى المطلق لله تعالى، ومع ذلك يَستقرض الله من النّاس قروضاً حسنةً لمنفعتهم.
- جزاء القرض ليس مكسباً دنيويًّا بل هو جزاء أخرويّ، فالنّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يدعو المؤمنين للتعلّق بالآخرة من خلال أفعالنا في هذه الحياة الدّنيا.
- تأكيد رسول الله (الصّلاة) على أبي الدحداح بأن لا يتصدّق بكلّ ما لديه، فيبقي بستان له ولعياله، ويتصدّق بالآخر. وإن كان البستان الباقي هو صدقة أيضاً، ولكن صدقة يجريها على عياله، فالبذل على العيال صدقة، وبذلك لا يصير أبو الدّحداح عالةً على غيره، فالتّواكل على الغير وطلب المعونة من الغير مذمومٌ عند الله تعالى.
- الزّوجة المخلصة لله تعالى تحثّ زوجها على فعل الخير وعلى الإقراض الحسن، ولا تصدّه عن أداء المعروف مع النّاس. وانظروا إِلَى المقام الَّذِي وصلته هذا المرأة، حيث إِنَّها بمجرّد ما سمعت من زوجها أَنَّه تصدّق بكلّ ما يملك بادلته الرضا والحثّ، وسارعت إِلَى أولادها أخذت تمر الصدقة من أفواههم، خلافاً لبعض نساء هذا العصر، حيث قد تبادر زوجها بالاعتراض والقطيعة.

فحريٌّ بنا جميعاً رجالاً ونساءاً أن نَعتبر من هذه الدّروس الّتي أعطانا إيّاها النّبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأنْ نبذل ما لدينا في سبيل الله تعالى، ونكون من أهل القروض الحسنة.

فيضاعفه أضعافاً كثيرة
إنّ الله تعالى قد طلب منّا في أوّل هذه الآية الكريمة طلباً، فقال عزّ من قائل: ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنً، ثمّ جاء الجواب من قِبَلِهِ سبحانه وتعالى: ﴿فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً، أنْ يَا عباديَ أجيبوني، فأعطيكم من العطاء المضاعف، ومن العطاء الكثير، ما لا عين رأت، فما تقدِّمه من قرضٍ لأخيك المؤمن لا يضيع عندي، بل يعود عليك بمنافعَ ليس لها إحصاء.

وهنا أشار بعض أهل اللّغة إلى الفرق بين الضّعف والذي هو أداء المثل وزيادة، وبين قوله تعالى (أضعاف)، فإنّ فيه تأكيداً على معنى الزيادة أكثر من كلمة (يضعّف)، لأنّ معنى ضعّفت، أي: ضعفت مرّتين، بينما ضاعفت، يعني جعلته مرّتين فصاعدا.

وفي الصحيح عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام: "مَكْتُوبٌ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةٍ، وَالْقَرْضُ‏ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ"15

فالقرض بثمانية عشر ضعف، والصّدقة أقلّ منه في الأجر والثّواب كما هو ظاهر الحديث الشّريف، ومع ذلك لم يكتف الله تعالى بذلك، فعقَّب التّضعيف بالكثير، أي أضعافًا كثيرة!!

فجزاء القرض الحسن أضعافاً كثيرة، وهذا الجزاء قد يختلف باختلاف مراتب الإخلاص في إعطاء القروض الحسنة، فتراة يكون بعشرة كما في قوله تعالى: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا...16، وتارة أخرى يكون بسبعمائة، كما في قوله تعالى: ﴿مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ17.

هذا هو بعض جزاء من يقرض الله قرضاً حسناً، فالله يُعطي كلّ من يُنفق في سبيله الكثير الكثير، كمثل حبّة أنبَتت سبعَ سنابلَ، وكلّ سنبلة تُعطي مائة حبّة، وبعد ذلك يضاعف الله تعالى لمن يشاء من عباده أضعافًا كثيرة!!

يقبض ويبسط
بعد كلّ العطاء الّذي قرنه الله تعالى بذاته المقدّسة، وأنّ الّذي يقرض الله قرضاً حسناً يضاعفه له، علينا أن نبقى متيقّظين إلى أنّ ما نبذله ونقدّمه لا يساوي شيئاً أمام كرم الله تعالى علينا، ولا يُمكن في لحظة ما أن يقوم الإنسان بالتّفكير فيما بينه وبين نفسه أنّه قد فعل الكثير، وأعطى ما لا يمكن أن يعطيَه غيره.

من هنا كان تنبيه الله تعالى لنا عندما قال سبحانه: ﴿وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

لكي نضع في بَالِنا ـ وبشكل دائمٍ ـ أنّنا مهما قدّمنا يبقى تقديمنا قليلاً جداً مقابل قدرة الله القابض والباسط علينا، من نعمة الخلق، والصّحة والعافية، والأمن، والأمان في كلّ شعب حياتنا، فالله عزّ وجلّ إذا أراد منعَ عنّا كلّ شيء، وإذا أراد أعطانا كلّ شيء...

فيا أيّها المؤمن! أقرض الله قرضاً حسناً يُضاعفه لك أضعافًا كثيرة جدًا، ولا تغفل عن أنّ الله سبحانه هو المعطي الحقيقيّ، وهو المانع الحقيقيّ أيضاً، فإذا أراد أن يُضَيِّق علينا منع عنّا الهواء الّذي نتنفّسه.

هذا، وإليه المرجع والمصير، والمبدأ والمنتهى...

وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله المعصومين.
* كتاب وزدناهم هدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة البقرة، الآية: 245.
2- سورة النحل، الآية: 125.
3- سورة التوبة، الآية: 105.
4- سورة المائدة، الآية: 2.
5- سورة البقرة، الآية: 245.
6- سورة الحديد، الآية: 11.
7- انظر: لسان العرب، مادة (قرض).
8- الشهيد الأول، محمد بن مكي، الدروس الشرعية في فقه الإمامية، ج3، ص 318، نشر: مكتب النشر الإسلامي التابع لجماعة المدرسين، الطبعة الثانية 1417، قم.
9- سورة فاطر، الآية: 15.
10- سورة المزمل، الآية: 20.
11- الشيخ الكُلَيْني، الكافي، ج 4، ص 34.
12- سورة الكهف، الآيتان: 103 - 104.
13- العذق (بفتح فسكون): النخلة. وبكسر فسكون: العرجون (الغصن) بما فيه من الشماريخ. ورداح: ثقيلة.
14- القرطبي، محمَّد بن أحمد الأنصاري، الجامع لأحكام القرآن، ج 3، ص 238، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، نشر دار إحياء التُّراث العربي 1405، بيروت.
15- الشيخ الكليني، الكافي، ج 4، ص 33.
16- سورة الأنعام، الآية: 160.
17- سورة البقرة، الآية: 261.

النبي أيوب عليه السلام

النبي أيوب عليه السلام

حديث أملاك
كان هذا حديث ملائكة في ملئهم الأعلى:
- لله هذا العبدُ الصَّالحُ، أيوبُ..

لقد أنعمَ الله عليه بالأموال الكثيرة، من قطعان إبل، وخيلٍ، وشياهٍ، وأُتُنٍ، تسرحُ في الفلاة ترعى، فتغطّ لكثرتها، الفلاة..

وتموج باعدادها الوهاد والهضابُ..

وعبيدٌ كثيرون يقومون برعايتها، والعناية بها.. وخدمٌ عديدون، يروحون، ويجيئون!..

ومع ذلك، فلم تُبطر النّعمةُ أيوب، ولم يبخل بما آتاه الله..

فبابه مفتوحٌ للرائحين والغادين ويده مبسوطةٌ تعطي بلا كدرٍ (أي: منٍّ) ولا حسابٍ!.. لم يطرقه سائل إلاّ أغناه،.. ولم يقصده محتاجٌ إلاّ كفاه!..

شعاره: مال الله لعبيد الله.. وما جعلني الله على هذا المال إلاّ قيّما، لا مالكاً له، ولا خازناً!.. إنّه أمانة عندي أؤديها إلى خلقه.. وليس لي في ذلك كلِّه حولٌ ولاطول، بل، بحولِ الله وقوّته، يتمُّ ذلك، ويكون!..

فتبارك الله: ماأطيبَ نفسَه، وأجملَ خُلُقَه، وأسمحَ يده!..

ويُردِفُ ملاكٌ آخرُ:
- وكان من تمام النّعمة عليه، أن رزقه الله أولاداً.. فكانوا سبع بناتٍ، ومثلهم من البنين!. فهم له قُرّةُ عينٍ، وعونٌ على المعروف يسديه، والإحسان يؤدّيه..

يراهم، بين يديه، كراماً بررةً، فيحمد الله ويشكرهُ على ماحباه من ولد صالحٍ!.. ويخاف عليهم الزّيغ، والعُجب، والتّكبُّر.. فيدهوهم إلى مراقبة الله في كل خطوةٍ، ومقالٍ، ويذكّرهم بأنّ عين الله ترى، وبأنه يعلم السرَّ وأخفى!.. ويطيبُ بهم خاطراً، وقد انتهجوا سبيل الهدى والرّشاد.. فيسجد لله شاكراً له وافرَ النّعماء، والحُسنى!..

ويتابع ملاك ثالث:
- وكان أن زاده الله من فضله، بأن رزقه صحّةً وفتُوَّةً.. فشبابه يتفجّرُ بالعزم والعافية..

وشكرَ الله أيوبُ، بأن اتّخذ من شبابه وسيلةً لمرضاة الله، وسبيلاً لطاعته، صارفاً ماعمر الله جسده من طاقةٍ، في سبيل الخير والإحسان،.. وإعانة الضعيف، وإغاثة المحتاج، آخذاً بيد هذا، مسدّداً خطو ذاك، فلم يعرف الكبرُ إلى نفسه سبيلاً، ولم تأخذه العزّة بما حباهُ الله من قوّةٍ. فقوّته من الله، وإليه..

ويتّفقون فيما بينهم:
ليس على وجه الأرض، عبدٌ، كأيوبَ، صالحٌ..
إنه نعمُ العبد،.. إنه أوّاب!..
وكان إبليسُ -يحيط به بعضُ أتباعهِ وجنده- قريباً من السّماء، يسترقُ السَّمع، فيسمع تحادث الأملاك، فيعجب من أيوب غاية العجب، ويقول في نفسه:
- يظهرُ أن زينة الدنيا، وبهرجها، وزُخرفها، لم تطغ أيوب، ولم تستطع إغواءه، فهلاَّ ابتلاه الله؟..
فمِمّا لاشكّ فيه أنّ زوال النِّعمة عن الإنسان، داعيةٌ للكفران بعد الإيمان!..

ابتلاء أيوب في ماله
ويرفعُ إبليس رأسه هاتفاً:
- إي ربَّ!.. لقد أعطيت أيّوبَ مالاً لاتغيبُ عنه الشّمسُ.. فلو قضى عمره في سجدةٍ واحدةٍ لك، لم يوفّك حقّك في ما حبوته إياه.. فهلاّ ابتليته في ماله؟.. وأصبته في ثروته؟.. إذاً، وحقّك، لتغيّر، وفترت عبادتُه، وقلّت طاعتُه، وانقطع إحسانُه..

ويأتيه الجوابُ من علِ:
- عبدي أيوب لم تُبطرهُ النّعمةُ حتى يجزع من النّقمة،.. فاصنع، وجندَك، ما بدا لك في أمواله،.. قد أبَحنا لك ذلك، وسترى، بعد ذلك، صدق عبادة عبدي الصَّالح أيوب!..

وينطلق إبليس وجندُه إلى مال أيوب، وقد انتشر في البراري والفلوات إبلاً، وخيلاً، وشياهاً، وأتُناً، حتى غطّى وجه الأرض،.. وينقضُّون عليها، فإذا هي مجندلةٌ، على وجه الأرض، صرعى!.
وارتاع الرُّعاة لما رأوا..
وأخذهم العجبُ من هذا الوباء الوبيل الذي فتك بالقُطعان هذا الفتك الذّريع!..
وانطلقوا إلى سيّدهم أيوب، مهرولين، صائحين.. وأخبروه بمآل أمواله..
فأجابهم- وقد افترَّ ثغرُه عن ابتسامةٍ-: لا عليكم!.. مالُ الله، يفعلُ الله به مايشاء!..
وقعد أيوبُ في بيته، وكأنَّ شيئاً لم يكن!..
فلم تَفُتَّ في عزمه المصيبةُ، وقد تحوّل بين عشيّة وضُحاها من ثريٍّ كبيرٍ إلى مسكينٍ فقيرٍ،..
بل حمد الله على ما أصابه، كما كان يحمدُه على ما أعطاه!..

وظهر إبليسُ لأيوب، في هيئة شيخٍ حكيم، قد عجمت عودة الأيام (كناية عن تجاربه الكثيرة) وحنّكته التّحاريب.. فسلّم على أيُّوب بوفارٍ، وقال له:
- مافعل الله بك ياعبد الله؟..
فأجابه:- إنه الله الفعّالُ لما يريدُ!.
- أرأيت لو كان الله أثابك على ما دأبت عليه من الصّلاة وأعمال البرّ لما أصابك في مالك ما أصابك!.
- صه!.. أيها الشيخُ.. إنما تنطق بلسان الشَّيطان..
وخرَّ إبليس إليه، وهو كذلك، فقال في نفسه:
- واحسرتاه، سجدَ فرَشد، وأبيتُ فغويتُ!..
ثم تولّى على عقبيه، ندمان، حسران، خزيان!..
وهكذا لم يهن أيوبُ أمام مصيبته في ماله، بل تماسك، وتجلّد، صابراً محتسباً، ولم يفتُر لسانه عن تسبيح الله، وشكره على آلائه (أي: نعمة)، أبداً..

ابتلاء أيوب في أولاده وخدمهواتّجه إبليسُ بنظره إلى السّماء، هاتفاً من جديد:
- إي ربِّ!.. لقد أصبتَ أيوبَ في ماله، فما انفكَّ عن ذكرك وما انقطع عن شكرك، وما ذلك، إلاّ لأن بين يديه أولاداً كثُراً، من بنين وبناتٍ، يفعلون بأمره، ويقومون بما يريد.. بالإضافة إلى خدم كثيرين، طوع إشارته.. فهم عُدّته إذا اشتدَّ الزمان، وعضّته المصيبة.. فهلاً ابتليته في من حوله من خدمٍ وأولاد؟.
ويأتيه النداء من فجاج الغيب:
- أنا الله السميع البصير، الخبيرُ بعبدي الصّالحِ أيوب، الذي لا يعرفُ الجزعُ إلى قلبه سبيلاً..
فأجلب على من عنده من أولادٍ وخدمٍ، بخيلك ورجلك، باستثناء زوجه "ليا".. واصنع ما بدا لك!..

وهبَّ إبليس، وبعضُ جنده من المردةِ العُتاة، والشياطين العصاة، يتربصون بأبناء أيوب، وخدمه، الدّوائر..
وماهي إلاّ سويعات، حتى أخذ أولادُ أيوب، والخدمُ، يتوافدون إلى القصر، للاجتماع فيه، وتمضيه جزء من النّهار، وتناول طعام الغداء، معاً..
وانتظر إبليسُ، ومن معه، حتى تكامل عقد المتوافدين، وتمَّ عددهم،..
وبينما هم كذلك..
وإذ بإبليس وجنده ينقضُّون على أسس القطر، وركائز أعمدته، فيزلزلونها زلزالاً شديداً،.. وماهي إلاّ لحظات، حتى تهاوى القصر على من فيه وتحوّل إلى ركامٍ وأنقاضٍ!..
وعلت الصّرخةُ..
وسُحبت الجثثُ من تحت الأنقاض أشلاءً، أشلاء..
وأتى الصّارخُ أيوب -وكان عنهم بعيداً-:
-:هلُمَّ يا أيوبُ.. لقد تداعى القصرُ على أبنائك وخدمك المجتمعين فيه.. فهم جميعاً، صرعى!..
عظَّم الله أجرك فيهم، جميعاً!..
ولم يصرخ أيوب.. ولم يجزع، ولكنه أطرق إلى الأرض قليلاً، وقد سالت على خدَّيه دمعة حرّى، أخذ يكفكفها بطرف كمِّه وهو يقول:
إنّا لله، وإنّا إليه راجعون!.
وصرخت زوجَه ليا بنت يعقوب النبي، وولولت، وانتحبت.. فدعاها أيوبُ إلى التَّصبُّر،.. فما لبنات أنبياء نبي إسرائيل، والجزع؟..
وعاد أيوبُ إلى منزله، بعد ساعةٍ،.. بعد أن شيَّع أولاده وخدمه جميعاً إلى مثواهم الأخير.. وهو ما يزال يذكرُ الله ذكراً كثيراً..
ولم يبق له من الدّنيا إلاّ هذه المرأةُ الصالحةُ، التي طفح وجهُها بالحزن والأسى..

وأتاه إبليس في زي شيخ وقورٍ، معزِّياً،... فالكلُّ إلى زوالٍ!..
والتفت الشيخ إلى إيوب، وكأنه يتساءل، موسوساً:
- تُرى، ...أما كان لصلاتك، وشدة تعبُّدك لله، أن يدفعا عنك هذا المُصابَ الجلل، والرُّزء الفادح؟..
أعانك الله على ما أنت فيه من الأمور العظام، والخطوب الجسام!.. ثم،.. أإلى هذا الحدِّ يتخلَّى الله عند عبده المؤمن الذي لايفتُرُ عن ذكره، في قيامٍ وفي قعودٍ، وفي جيئةٍ وفي ذهاب!..
ورمقهُ أيوب بنظرةٍ شزْرٍ، كملتهب الشّرر:
- إليك عني أيها الشيخ.. هلاَّ ذكرت الله في قولِك؟
وهل كان مالي إلاّ وديعةً استودعنيها الله؟
وهل كان أولادي إلاّ عاريةً (أي: وديعة) مستردَّة؟
فمن حقِّ الله المعطي، أن يستردَّ ماشاء متى شاء!..
ويخرُّ أيوبُ ساجداً لله، وهو يتمتم: -ربِّ.. لك الحمدُ والشكرُ، في الضرّاء، كما في السرّاء!..
فتولى عنه إبليس مغيظاً، محنقاً، وهو يكاد يتميَّزُ غيظاً!..
وأخذ إبليس يقلِّب كفيهِ..
فمن أين يأتي أيوب؟..

ابتلاء أيوب في بدنِهوانتبه إلى صحة أيوب وما لهُ من نشاطٍ جمٍّ..
فأيوب ممتلئ الجسم صحةً وعافيةً.. له جسمُ الرِّجال الرِّجال، وعزمُهم الشديد!..
فتوجَّه إلى السماء قائلاً: - إي ربِّ.. لقد سلبتَ أيوبَ أمواله كلّها، فما لانت له قناةٌ، ولاوهنت له عزيمةٌ.. وحرمته أولاده وخدمه أجمعين، فما كان ذلك ليؤثر عليه من قريبٍ أو من بعيدٍ..
وإني أراه معتمداً على قوَّته، معتداً بفتوته.. فهو فارع الطُّولٍ، متينُه، عريضُ المنكبين، شديدُهما؛ مفتولُ السّاعدين، قويُّهما..
فهلاّ ابتليته في جسده وصحته، وأصبتَه في قوته وهمَّتِه؟..
ويأتيه الجوابُ من علٍ: إنَّ عبدي أيوبَ نِعم العبدُ الصَّابرُ على ما يصيبُه..
لقد سلطتك على جسده، وأبحتك بدنه، فأجمع له ما استطعت من أمرك، وكد لهُ ما شئت من كيدك، فما أمرُك إلاّ في ثباتٍ!..

ويكرُّ إبليس وجندُه، على أيوب الفرد، الصِّفرِ اليدين، ويأتونه من كل جانبٍ، وينفخون في جسده من خبيثِ أنفاسِهم، فيقعُ عليلاً، منهوك القوى.. وتنتشر في بدنه العِللُ والأمراض، فيمتلئ قروحاً وجروحاً ملتهبات!.
ويبقى على هذا الحال سنين.. وتُبرِّحُ به الأوجاعُ والآلام، والعِللُ والأسقامُ.. ولا من طبيب، ولا من دواءٍ؟.. وهكذا أصبح بدنهُ مرتعاً لكلِّ علَّةٍ، ومسرحاً لكلِّ داءٍ خبيثٍ!..
ويعودُه بعضُ النَّاس..
- ما تشكو يا أيوب؟.
- إلى الله أبثُّ شكواي ونجواي، وهو وحدّه الخبيرُ بما أنا فيه..
وسرعانَ ما ينفض عنه الناس، ويتحامونه.. فريحُهُ كريهٌ، لا يُحتمّل،.. ومنظرُ جسده يبعث على الغثيانِ!..
ويودِّعونه، ويودعون زوجَهُ ليا بنت النبي يعقوب، التي كانت تتعهَّدُهُ، بعطفٍ وحنانٍ، وتقومُ على خدمتِه خيرَ قيامٍ!..
وأخيراً انقطع عنه الناسُ، وتحاشَوا لقاءه، وتجنَّبوا عيادته.. إذ قد امتدّت به المحنةُ، وأصابهُ الجهدُ، وأوغل في عروقه ومفاصله الدّاءُ العُضالُ..
وكان أيوب يعاني ذلك كلّه معاناة الصّابرين المحتسبين.
وظلّ، كعادته، منشغلاً بالله عمّن سواه من العالمين.. شاكراً إياه على كلِّ حال!..

أما إبليسُ فكان يرى ذلك كلَّه، فيشتدُّ غيظاً، ويستعِرُ حنَقاً،.. ويدمدم: لم أرَ في حياتي رجلاً مبتلىً كلَّ بلاءٍ، يصبُر، كأيوب!..
ويجمع حوله رهطاً من جنوده،..
- مالعملُ، بعدما رأيتم من أمر أيوب؟.
- لقد أُسقط في أيدينا (كنايةً عن العجز) بعدما رأينا أيوب يصبر هذا الصبر الذي لا حدود له..
- حقاً إن صبرَ إيوب لعجيبٌ.. لقد ابتُليَ البلاءَ تلو البلاء، لو أصاب بعضُها الجبال لدكَّها..
- إنه ليحزنني أن نفشلً كلُّنا في هذا الأمر، وقد نجحنا في ماهو أشدَّ منه، وأدهى..
- ولكن، قال لي، سيدنا،.. كيف أخرجت آدم من الجنَّة؟.
- بواسطة زوجه حوَّاءَ..
- إذاً، فلنحاول جُهدَنا، أن نأتيَ أيوبَ من قِبَلِ زوجِه ليا..
- وهو ما تقولُ..
وينصرفون..

إبليس وزوج أيوبوفي الصباح الباكر، يظهر إبليسُ لزوج أيُّوبَ، ليا، بصورة طبيب..
ويسألها عن زوجِها..
فتجيب: لا هو حيٌّ فيُرجَى، ولا ميِّتٌ فيُعزَّى به..
وتدعوه لمداواة أيوب..
فيجيبها: أداويه، ضامناً شفاءه ممَّا يكابدُ من داءٍ وسقمٍ، ولكن بشرط، لا أريد جزاءً سواه..
قالت: وما هو؟
قال: أداويه.. على أنه إذا برئ، يقول لي: أنتَ شَفيتَني!..
قالت: نعم!..
وأسرعت ليا إلى أيوب، قائلةً له، وكأنها تستَرحِمُه:
- يا أيوب.. لقد طال مرضُك، وامتدَّت معاناتك،.. وهذا طبيب يزعم أنه يشفيك من كلِّ ما تعاني منه، من أوصابٍ وأسقام!..
- عليَّ به، ياليا..
- ولكنه أخذ عليَّ عهداً، واشترطَ شرطاً..
- ما يقول؟..
- يقول: إنه يداويك، فإذا برئت تقول له: أنتَ شفيتني.. لا يريد جزاءً سواه..
ويحتقن وجهُ أيوب، فبدا رهيباً،.. ويصرخ بوجهها كالملسوعِ:
- أغربي عن وجهي.. قبَّحَ الله ما ترين..
أولم تسمعي قول جدِّك إبراهيم خليل الرَّحمن:
﴿الّذي خلقني فهو يهدين. والّذي هو يُطعمني ويسقين. وإذا مرضتُ فهو يشفين. والّذي يُميتني ثمَّ يُحيين﴾...
ويتابع قوله لها بصوتٍ هدَّار، وهو يتوعدها بأليم العِقاب:
- والله، إن منَّ الله عليَّ بالسّلامة ممّا ابتلاني به، لأجلدنَّك مائة جلدةٍ جزاء ما نفث الشيطانُ على لسانك، وما وسوس لك به إبليسُ، مزيِّناً لك الكفرَ بالله، والشِّرك بعبادته..
وتنصرف ليا من أمام وجه زوجها الذي اشتعل غضباً..
وترى الطبيب، وكأنه كان يسمعُ تحاوُرَهما،.. فما أن رآها عائدة، مكسوفةً، حتى نكَصَ على عقبيهِ، وتولَّى عنها، مدمدماً، غضِباً..
وماهي إلاّ ساعة، حتى تعود ليا لما فُطِرَت عليه من إيمان، فتستغفر الله، وتعتذرُ إلى زوجِها، وقد رقَّ قلبُها له، فهي لا تبغي من وراء ذلك كلِّه إلا شفاءه..
وتتودَّد إليه، وتتلطَّف، وتتعطَّف، فيُقبل عليها بوجهه،..
وتنظر إليه باهتمام عطوف، وحدبٍ حانٍ، وقد ترقرقت في عينيها جمعة، وتقول له، برقَّةٍ، وكأنَّها تهمسُ في أذنه:
- ما عهدتُك، يا أيوبُ، إلاّ صبوراً على الشَّدائدِ، جلداً على الأحداث والمِحَن.. وقد اصطفاك الله، من بين قومِك، نبياً،..
فهلاَّ سألتَ الله أن يمسَحَ ضُرَّكَ، ويكشفَ عنك هذا البلاءَ، ويُنقِذكَ من لُجَج هذه الأسقام؟
إني لأراه، إن فعلتَ، استجابَ!..
- وكم مضى عليَّ في مرضي ياليا؟..
- سبعُ سنين..
- وكم مضى عليَّ، قبلَ ذلك، من عمري الذي عشته معكِ، في نعمة عيشٍ وارفٍ، ودعةِ بحبوحةٍ، ورغد..؟..
- ثمانون..
- إني لأستحيي من الله، أن أسألَه كشفَ مابي من البأساء، ولم أصبر، بعدُ، على معشارَ ما حباني به من النَّعماء..
وتنصرف ليا شاردة النظرات..
وينطل أيوب يمجِّد الله، ويسبِّحه، ويقدِّسه، ويشكره، كثيراً..

بُرْءُ أيوبوتجرُّ أيوبَ قدماه بجهدٍ، وإعياءٍ، شديدين، إلى ظاهر بيته، في البريَّةِ، يُسَرِّح نظره في الآفاق، وقد اكتست الطبيعة حلةً خضراء خضراء.. مرصَّعةً بالزهر من كلِّ لونٍ.. ويأخذ مجلسه على التراب النديِّ، فتباركَ الله أحسن الخالقين..
هناك: ﴿نادى ربَّه أني مسّنيَ الضُّرُّ وأنتَ أرحمُ الراحمينَ
وألقى في روعِ الملتلى الصابر: أن اضرب بقدمِكَ الأرض.. ففعل.. فانفجرت منها عين ماءٍ دافقة، وقيل: بل نبعت عينان:
فاغتسل في إحداهما، وشرب من الأخرى..
وتمطَّى قليلاً، وتثاءب.. وكأنّه فُكَّ من عِقال..
ونظر إلى جسده، فإذا به قد عوفي من كلِّ داءٍ وسقم..
وإلى فتوته.. فإذا هو بعزيمةِ إيّام الشباب!..أيتم
فأسرع إلى منزله، وهو يكبِّر الله، ويحمده، وارتدى ثياباً كان قد خلعها منذ سنوات..
ولما عادت زوجه إلى البيت، ارتاعت.. ففي البيت رجلٌ غريب..
وحدَّقت النَّظر فيه مليَّاً، فناداها، .. فعرفته من صوته.. إنه زوجها أيوب..
فصرخت فرحاً، وقد ملأت عليها المفاجأة المذهلةُ كلَّ وجدانها.. وأسرعت إلى زوجها تعانق خدَّيه الملتمعين بالعزم، ورواء العافية.. إنها لتكاد تطير فرحاً.. فسبحان من يحيي العظام وهي رميم!..
وغفر الله لها زلَّة لسانها، في موقف ضعفٍ، جزاءَ حسنِ تعهُّدها أمور زوجها في الشَّدائد المهلكات..
وأوحى الله تعالى إلى أيوب: أن أجمع حزمةً من شماريخ العشب، وقضبانه الهشَّةِ، تبلغ مئةً، واضرب بها زوجك ليا، ضربةً ليِّنةً واحدةً، تبرَّ يمينُكَ.. ففعل!..
وشاء الله تعالى إلاّ أن سكاف أيوب بمزيد من الحسنى، ويجزيه الجزاء الأوفى.. فأحيا له جميعَ من هلَك من ولده وخدمه، ومثلَهم معهم، ممن كانوا قبل البليَّة وخلالها وأعاد له جميع ما فقد من مالٍ، مضاعفاً، مباركاً.. تكرماً منه وتحنُّناً.. وتذكرةً وموعظةً لأولي الألباب!..
ويذكر الله الصابرين الذين يزيدهم من فضله، ويوفيهم أجورهم بأحسن ماعملوا، بأن لهم عقبى الدار..
ويذكر الناسُ الصّابرين، فيقولون: صبرٌ.. ولا صبرُ أيوبَ!..

* جمعية القرآن الكريم للتوجيه والإرشاد - لبنان.

عندما تشرق شمس يوم جديد

عندما تشرق شمس يوم جديد
تُطوى صفحة من صفحات الأيام بكل ما فيها من أحداث
و تفتح في ذات الوقت صفحة بيضاء جديدة
فاجعل أول ما يدون في هذه الصفحة البيضاء
قربك من الله عز و جل
cid:74D8663C5480462785D7C6C4DF99B616@HPPC

صباحكم تفاؤل و أمل

cid:D978FA0A6CD0422D9658138C400275C6@HPPC
cid:09CA65FD910448F391A455D4F56288EA@HPPC


عالم الغيب والشهادة

عالم الغيب والشهادة

تمهيد
قد يعترض بعض على هذا البحث بأنّه في عصر العلم والتجربة وبعد إخضاع كلّ شي‏ء للحسّ والمشاهدة، ما معنى البحث عن الغيب والإمداد الغيبي وكلّ ما هو وراء عالم الطبيعة؟

بين العلم والغرور العلمي‏
والحقّ أنّ هذا الاعتراض ناشئ من الجهل بل هو أقبح منه، فإنّ الجمود والغرور العلميّ أقبح من الجهل، والعالم الحقيقيّ هو الّذي يعترف بجهله،﴿...وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً1.

وفي نفس الوقت لا يقبل أيّ حقيقة ولا يُنكر أيّ دعوى إلّا بدليل، وأمّا إذا اكتفى العالم بما لديه من معلومات وجمد على ما وصل إليه فهو الغرور بعينه وهو أقبح من الجهل بكثير.

وحسّ التحقيق أكثر قداسة من العلم نفسه، وإنّما يعتبر العلم مقدّساً حينما يلازم روح التحقيق واتّباع الدليل، وهذه الروح لا توجد إلّا في العالِم الّذي يعترف بنقصه العلمي والثقافي، وفي الحديث حول تقسيم العلم:"العلم ثلاثة أشبار فمن نال منه شبراً شمخ بأنفه وظنّ أنّه هو، ومن نال منه الثاني صغرت إليه نفسه وعلم أنّه ما ناله، وأمّا الثالث فهيهات لا يناله أحد"2.

فالّذي ينال الثاني يتواضع فكيف بالّذي ينال الشبر الثالث. والدِّين لم يكن أبداً ضدّ العلم، بل على العكس كان محفِّزاً للعلم باتّجاه التحقيق باعتراف الكثير من العلماء3، ولذلك نحن علينا أن نقبل عالم الغيب ـ إن قبلناه ـ والإمدادات الغيبيّة بالدليل ونرفض ذلك ـ إن رفضناه ـ بالدليل.

ما هو الغيب؟
لقد ورد في القرآن الكريم كلّمة الغيب في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...4.
وقوله: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ...5.وكذلك قوله تعالى: ﴿...عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ...6.

والمراد به هو الأمور الخفيّة والغائبة عن الحسّ.
وقد اصطلح الفلاسفة على عالم الطبيعة بعالم الشهادة، وعلى عالم الملكوت بعالم الغيب7.

عالم الشهادة
هو العالم الّذي نراه ونلمسه ونسمعه وكلّ ما له علاقة بالحواسّ، وهذا العالم لا يحتاج في إثباته والإيمان به إلى دليل غير الحواس الخَمس، نعم إنّما يدور التحقيق في هذا العالم للكشف عن حقائقه بشكل أوسع وأكبر.

عالم الغيب‏
هو العالم الّذي يغيب عن الحواس، ولا تكفي الحواس وحدها للكشف والتعرّف على هذا العالم ومن ثمّ الإيمان به، وإنّما بحاجة إلى مساعدة العقل8، وإلى قوّة أكثر خفاء لمشاهدة الغيب، وهي فهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أو الوليّ.

فالأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا ويكلَّفوا بإقناع الناس بوجود عالم الغيب والاعتقاد به، وإنّما بعثوا لأجل أن يؤمن الناس به وبالإمدادات الغيبيَّة، فكانوا همزة الوصل بين الناس والغيب وما يُفاض عنه وفق الشروط الخاصّة، ومن هنا كانت لمسألة الغيب علاقة بالواقع العملي للإنسان.ومن هنا كان لمسألة الغيب علاقة بالواقع العملي للإنسان.

ستار الغيب‏
ما هو ستار الغيب الّذي أسدل بيننا وبين الغيب؟

هل هو حجاب وستار مادّي أو أنّ التعابير المستعملة كنايات عن معنى ومفهوم، فقد استعمل القرآن الكريم التعبير بالغطاء.
﴿.. َكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ9.

وكذلك ورد في القول المشهور المنسوب لأمير المؤمنين عليّ عليه السلام:"لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا"10.
ومن المسلّم أنّ هذا الستار ليس ستاراً مادّياً محسوساً، وإنّما هي كنايات عن حجاب المحدوديّة للحواس الّتي لا يتسنّى لها إدراك غير الأمور المحسوسة والمحدودة، ولتوضيح هذا الستار بشكل أفضل ندخل في بحث:

المحدود واللامحدود
يمكن تقسيم الموجود بحسب القسمة العقليّة الحاصرة وهي الدائرة بين السلب والإثبات إلى الموجود المحدود والموجود اللامحدود، ومن خلال معرفة المحدود نعرف اللامحدود، وهذا ما يصطلح عليه (تعريف الشيء بضدّه أو بنقيضه)، ويستعمل هذا الأسلوب عندما لا يمكن للحواسّ أن تتعرّف على الشيء.

المحدود: كلّ جسم يشغل حيِّزاً مكانيّاً فهو موجود فيه وغير موجود في غيره، وإذا وجد في غيره فهو غير موجود في المكان السابق.
إذاًََ الجسم محدود بمكان خاصّ ولا يمكن له أن يتواجد في موضعين في نفس الوقت، والكلام نفسه بالنسبة للزمان فهو موجود في هذا الزمان مثلا وغير موجود في الزمان السابق أو اللاحق.إذاًَ الجسم محدود بزمان خاصّ أيضاً، وجميع الموجودات في عالم الطبيعة الّتي ندركها بالحواس هي من هذا القبيل، أي هي محدودة بالزمان والمكان.

اللامحدود: وهو نقيض المحدود لأنّه كما قالوا في المنطق نقيض كلّ شي‏ء رفعه أو سلبه، فاللامحدود هو الموجود الّذي لا يحدّه الزمان ولا المكان.
وبتعبير آخر هو الّذي يشغل كلّ زمان ومكان ولا يخلو زمان ولا مكان منه، وبتعبير ثالث هو الموجود المحيط بالزمان والمكان.

مثال توضيحي: عندما نسمع صوت الرعد مثلاً فإنّنا نلاحظ أنّ هذا الصوت يمتدّ لثوان معدودة ثمّ ينقطع، فهذا الصوت لم يكن ثمّ كان ثمّ انقطع، وحاسّة السمع إنّما تدرك هذه الأصوات المحدودة زماناً الّتي توجد تارة وتنعدم أخرى، ولكن لو فرض أنّ هناك صوتاً ممتدّاً عبر الزمن كان وما زال ولا يزال مستمرّاً منذ الأزل وإلى الأبد، فإنّ حاسّة السمع لا يمكن لها سماع هكذا صوت، لأنّه صوت غير محدود ونطاق عمل الحواس هو الموجودات المحدودة لا غير.

ونفس الكلام يجري لو فرض موجود غير محدود بمكان فإنّ حاسّة البصر لا يمكن لها أن تراه لأنّ مجال عملها هو الأجسام المحدودة المكانيّة.
تعرف الأشياء بأضدادها: إنّما نعرف النور لأنّ هناك ظلمة، فالنور قد يوجد وقد لا يوجد فهو محدود بمكان وزمان.
أمّا لو كان غير محدود وكان النور شاسعاً مستمرّاً ولا وجود للظلمة عندها لا يمكن لنا إدراك النور، وكان هذا الموجود، الّذي هو أظهر الأشياء وهو الظاهر بنفسه المظهر لغيره من الأشياء، خافياً علينا.

وكذلك الله تعالى اسمه، فالعالم بأسره فيض من فيوضاته، وهو موجود في كلّ مكان وزمان، ولكنّ شدّة ظهوره كانت سبب خفائه، فهو خفيّ لأنّه ليس له غياب فحيثيّة الظهور والخفاء واحدة فيه11:

يا من اختفى لفرط نوره‏            الظاهر الباطن في ظهوره12

مثال السمكة: السمكة لا تُدرك الماء الّذي يحيط بها من كلّ جانب فلذلك هي لا تعرف الماء، لكن عندما توضع على اليابسة (ضدّ الماء) تدرك معنى الماء وتشعر بأهميّته بالنسبة لها، فتأخذ ترمي بنفسها باتجاه هدير الموج، فلولا اليابسة ما عرفت معنى الماء ولولا الماء ما عرفنا نحن معنى اليابسة.

النتيجة
إذاً الغيب إنّما هو غيب بالنسبة لنا لقصور قدراتنا الحسّية عن التعلّق باللامحدود، لا أنّه هناك حائل وحاجب بين قدراتنا الإدراكيّة والحسيّة وبين الغيب.

محدوديّة الحواس‏
لقد كتبت عدّة دراسات في العصر الحديث عن حدود الإدراكات ومداها، وأهمّها ما كتبه "عمانوئيل كانْت" في كتابيه نقد العقل النظري ونقد العقل العملي، إلّا أنّ الفلاسفة الإسلاميّين بحثوا ذلك بصورة أكمل وأدقّ13.

وقد تعرّض الشاعر الفارسي "مولوي" قبل قرون لفكرة قصور الحسّ البشريّ حيث ضرب مثالاً لذلك في أبيات جميلة اشتهر من بعده بمثال الفيل.

فقد صوّر أنّ الهنود جاؤوا بفيل لعرضه في بلد لم يرى أهلُه الفيل من قبل ولكنّهم وضعوه في الليل في غرفة مظلمة، وعندما تهافت الناس للتعرّف على هذا الموجود الجديد بدؤوا بتحسّسه؛ باللمس لأنّه لا مجال للبصر في الليل، فمن لمس خرطومه قال إنّه موجود كالميزاب، ومن لمس أذنه قال إنّه كالمروحة اليدويّة، ومن لمس قدمه قال إنّه كالأسطوانة، ومن لمس ظهره قال إنّه كالسرير، ولكن لو حمل كلّ واحد شمعة بيده وأعمل حاسّة بصره لزال الاختلاف من الأساس.

إذن الحاسّة اللامسة أكثر محدوديّة من الباصرة الّتي تدرك الحجم الكبير بصورة موجود واحد، ونسبة حدود اللامسة إلى الباصرة تشبه حدود الحاسّة المحدودة إلى الحاسّة اللامحدودة (النسبي)، ونفس هذه النسبة بين الحواسّ كلّها إلى مدركات العقل.

كيف ندرك عالَم الغيب؟
إن كانت الحواسّ لا تمتدّ إلى غير المحدود، فكيف يمكن التعرّف على عالم الغيب الّذي هو بعيد عن متناول الحسّ؟ وأيّ طريق يسلكه العقل وما هي الآثار والدلالات الّتي ترشده إلى عالم الغيب؟

الحركة الجوهرية14
وفي مقام الجواب على السؤال نتعرَّض للنظريّة الّتي أثبتها صدر المتألِّهين الشيرازي (رضوان الله عليه) في أبحاثه الفلسفيّة وهي نظريّة الحركة الجوهريّة.

فقد أثبت العلم والفلسفة15 أنّ الأصل في الأشياء المادّية هو الحركة، فالفلسفة ترى بأن كلّ الأشياء متغيّرة في ذاتها وجوهرها، والعالَم كلّه كقافلة تنتقل دائماً من وجود إلى وجود، لا من مكان إلى مكان، بحركة مستمرّة متّصلة، فجواهر العالَم كلّها تتجوهر (تخرج من جوهر وتدخل في جوهر جديد) على الدوام، فالعالَم في حدوث وفناء مستمرَّين16.

وبناء على هذه النظريّة تكون فكرة أنّ العالَم بأسره معتمد على غيره وليس له أيّ استقلاليّة واضحة جدّاً، وبالتعبير الفلسفي يكون قائماً بالغير لا قائما بالذات، فهو لم يخرج من ظلمة العدم إلى نور الوجود بمعونة العلّة (الغير) وعندها ينتهي دور العلّة بهذا الحدوث، بل هو بحاجة إلى العلّة (الغير) بكلّ آنات وجوده لأنّه في حدوث وفناء مستمرَّين.

العالَم والله‏

إذا كان كلّ العالَم في حركة جوهريّة مستمرّة فهو قائم بالغير وهذا الغير هو العلّة الموجودة له دائماً وهو الله سبحانه، فلا يستغني موجود من الموجودات عن الله سبحانه لحظة بل آناً من الآنات، وإذا أردنا تشبيه ذلك بطاحونة الماء فإنّها لا يمكن أن تدور من دون سيلان ماء النهر وبمجرّد قطع الماء عنها تقف عن الحركة:

يا خفيّ الذات محسوس العطا           أنت كالماء ونحن كالرحى17

الخلاصة
لا ينبغي أن ننكر أيّ فكرة إلّا بالدليل، ولعل الإنكار من دون دليل أقبح من الجهل، والغيب أحد الأفكار الّتي لها التأثير العمليّ على حياة الإنسان، وهو اصطلاح في مقابل عالم الشهادة، وستار الغيب ليس حجابا مادّياً وإنّما هو محدوديَّة الحواسّ عن إدراك اللامحدود، وطريق الاطّلاع على هذا العالَم الحركة الجوهريَّة الّتي قال بها صدر المتألّهين، حيث يرى أنّ كلّ موجود هو عين الفقر والتعلُّق بالله سبحانه بدءاً واستمراراً.
* عالم الغيب والشهادة , سلسلة احياء فكر الشهيد مطهري , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1- سورة الإسراء، الآية: 85.
2- فيض القدير شرح الجامع الصغير للمنّاوي ج 4، ص 509.
3- يقول وليم جيمس: "إنّ الدين يشير إلى بعض الأمور والأشياء الّتي لا طريق للعلم والعقل لمعرفتها، ولكنّ هذه المؤشرات هي الّتي حفّزت العلم والعقل على التحقيق وبالتالي هي توصل الكثيرين إلى الاكتشافات والاختراعات في مختلف الميادين"، نقلاً عن مجموعة الآثار للشهيد مرتضى مطهري ج 3، ص 336.
4- سورة البقرة، الآية: 3.
5- سورة الأنعام، الآية: 59.
6- سورة الزمر، الآية: 46.
7- وقد استوحوا ذلك من التعبير القرآني في آية الزمر.
8- يعتبر العقل مرتبة من مراتب الغيب كما سيتّضح إن شاء الله.
9- سورة ق، الآية: 22.
10- منتهى المطلب للعلامة الحلي ج 3، ص 44، ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب ج 1، ص 317، ومستدرك سفينة البحار للشيخ علي النمازي ج 5، ص 163. ومن كلام لهعليه السلام بعد تلاوة ألهاكم التكاثر: "... فلو مثّلتهم بعقلك أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك.." نهج البلاغة من خطب الإمام علي عليه السلام، ج2 ص 208، تحقيق الشيخ محمّد عبدو. (المحرّر).
11- وقد ورد في دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة "... أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك، ومتى بعُدت حتّى تكون الآثار هي الّتي توصل إليك..." (المحرّر).
12- شرح المنظومة، الملّا هادي السبزواري، قسم الحكمة.
13- ولهذا البحث مجال آخر لا يسعنا التعرّض إليه الآن.
14- لسنا بصدد إثبات هذه النظرية لأنّ ذلك موكول للدراسات الفلسفية، وقد تعرّض الملا صدرا لإثبات نظريته بالأدلة المحكمة، وإنّما نريد عرض النظرية بالمقدار الذي يساعد على الإجابة عن السؤال.
15- علما أنّ الطريق الذي يسلكه العلم للوصول إلى أصالة الحركة في الأشياء يختلف عن طريق الفلسفة.
16- بينما نجد رأي أرسطو وأبي علي سينا خلاف هذا الرأي، فالجواهر في العالم برأيهما ثابتة لا تتغيّر.
17- وهنا ينقل الشهيد أبياتاً من الشعر الفارسي العرفاني الجميل للشاعر مثنوي من الدفتر الثالث ص 88، ولعلّ ترجمته إلى العربية تخرجه عن رونقه، لكنّ مضمون الأبيات يصبّ في هذه الخانة وهي أنّ كلّ الوجود فيض من الله لا يستغني لحظة عن الجود والفيض الإلهي، ولو ترك لحظة لانتهى، فكلّ شيء قائم بحوله وقوّته.

أنواع معرفة النفس

أنواع معرفة النفس

بين معرفة النفس ومعرفة العالم

إنّ الإنسان مدعوٌّ لمعرفة ذاته والعالم، لما في ذلك من أثرٍ على كلّ جوانب حياته. فالقرآن كتاب تربيةٍ وليس فلسفةً نظريةً لا انعكاس له على واقع الحياة. فمن عرف نفسه من أين، وفي أين، وإلى أين؟ يكون قد حدّد موقعه بدقّةٍ على خريطة الوجود، لكي يوصل نفسه إلى المنزلة السامية التي تليق به.

إنّ سعادة الإنسان وكماله يكمن في مدى اطلاعه ومعرفته بنفسه وبالعالَم، وكلّ من هاتين المعرفتين حائزٌ على درجةٍ من الأهمّية، لكن أيّهما أهمّ من الآخر؟
هنا يكمن الصراع مع الفلسفات والمدنية الغربية، حيث أعطت درجةً كبيرةً من الاهتمام لمعرفة العالَم ممّا أدّى إلى نسيان النفس وانهيار الإنسانية في الغرب.

وقد سلّط الضوء على ذلك زعيم الهند (المهاتما غاندي) ناقداً أفضل من الجميع الثقافةَ الغربية ومشيراً إلى ما نتج عن نسيان النفس "وعندما يفقد الإنسان روحه ماذا ينفعه فتح العالم"1.

ومن المحتمل أن يكون أحد وجوه الاختلاف هو أسلوب التفكير الشرقي وأسلوب التفكير الغربي، كما أنّ أحد وجوه اختلاف العلم والإيمان، هو أنّ العلم أداة للاطلاع على العالَم، بينما الإيمان رأس ماله الاطلاع على النفس.

ولو أعطينا لمعرفة النفس اهتماماً أكثر أو أعطينا معرفة العالَم اهتماماً أكثر أو اهتممنا بهما بشكل متساوٍ فإنّ المتيقّن هو اتساع حياة الإنسان باتساع معلوماته، والأوعى تكون روحه أكبر، ويكون حيويّاً أكثر، والفلاسفة يعتبرون الروح حقيقة مشكِّكة ذات مراتب ودرجات، فكلّما تسمو معرفة الإنسان بنفسه تسمو درجة حياته وروحيّته بالتدريج.

أنواع معرفة النفس
ويسعى العلم ليُطلع الإنسان على نفسه كما أطلعه على العالَم، لكن المعلومات التي يُقدِّمها العلم ميتة لا تبعث الحماس في القلوب ولا توقظ الطاقات الكامنة في الإنسان، بخلاف المعلومات التي يُقدِّمها الدِّين عن النفس، والتي تؤسّس بالإيمان، فإنها تلعب دوراً في وجود الإنسان وتزيل عنه الغفلة، وتشعل الطاقات المختبئة فيه لتصل إلى أسمى مراتبها وكمالها.

وليس المراد من معرفة النفس الإنسانية هو معرفة النفس الروتينية في دفتر النفوس، ولا البيولوجية التي لا يفترق فيها عن الحيوانات إلّا باستقامة القامة، بل هي "الروح الإلهية" الذّات التي تشعر بالشرف والكرامة، وتعتبر نفسها أسمى من أن تخضع للرذائل، وعندئذٍ يدرك الإنسان قدسيّتها، ويفهم للمقدّسات الأخلاقيّة والاجتماعيّة معنىً وقيمةً.

والنفس التي ينبغي على الإنسان التعرّف عليها ولا ينبغي الغفلة عنها هي تلك النفس التي نبّه الله تعالى في كتابه على عدم نسيانها: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون2.

ولكي يتضح الغرض أكثر نشير إلى أنواع معرفة النفس:
1ـ معرفة النفس الفطرية:

فالإنسان يعرف نفسه بالذّات، وهو قبل أن يعرف أيّ شيء غير نفسه يدرك نفسه بالوجدان وبالعلم الحضوري على حدّ تعبير المناطقة، وهذا النوع من الإدراك والمعرفة لا مجال للشك فيه لأنّ الواعي والوعي شيء واحد، وظهور الذّات عين ظهور الوعي.

نعم، بعد أن يدرك الأمور الخارجية يجد نفسه شيئاً من هذه الأشياء، فهو يدرك في هذه المرحلة ذاته بالعلم الحصولي وعلى نحو صورة مرتسمة في الذهن، فيكون الواعي وهو الذّات غير الوعي وهو الصورة المرتسمة في الذهن، وفي هذه المرحلة يمكن حصول الشك بل والخطأ، وبهذا البيان يظهر بوضوح خطأ ديكارت3 لأنّ "أنا موجود" لا يقبل الشك لنحاول رفعه عن طريق "أنا أُفكِّر".

2- معرفة النفس الفلسفيّة:
حيث يقوم الفيلسوف بالبحث عن النفس الإنسانية ماهيتها وحقيقتها، هل هي جوهر أم عرض؟ ماديّ أم مجرّد؟ موجودة قبل الجسم أم معه؟ باقية بعد فناء الجسم أم لا؟ وأمثال هذه الأمور. وسيأتي الكلام عنها أكثر عند الحديث عن معرفة النفس العرفانية.

3ـ معرفة النفس العالميّة:
وهي المعرفة في صلة النفس بالعالَم، من أين أتت؟ وأين هي الآن؟ وأين تذهب؟ فيكتشف الإنسان أنّه جزء من هذا العالم الكبير، تابع له، ولم يأتِ ولم يذهب ولم يعش لوحده.

وهذه المعرفة التي أشار لها أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "رحم الله إمرءً علم من أين وفي أين وإلى أين؟".
وهذه المعرفة تلهب روح الإنسان في البحث عن الحقيقة، تؤلمه تعطّشاً للبحث عن اليقين، فتوجد في وجدانه الشك لتجرّه من جهة إلى جهةٍ سعياً للوصول إلى الاطمئنان وراحة البال.

4ـ معرفة النفس الطبقية:
وهي المعرفة في صلة النفس بالطبقة الاجتماعية التي يعيش فيها، ولذا تعدّ هذه المعرفة صورة من صور معرفة النفس الاجتماعية، وكلّ إنسان ـ شاء أم أبى ـ يعيش في طبقة من الطبقات ولون من ألوان الحياة.

وبعض الفلسفات التي ترى أنّ الركيزة الأساس في بناء المجتمع هي "الاقتصاد"، يكون الحاكم الأصلي على الفرد هو المصالح المادّية، والذي يعطي لأفراد مجتمعٍ ما "الوجدانَ المشترك" و"والذوقَ المشترك" و"الحكمَ المشترك" هو الحياة المادّية والمصلحة المشتركة، ولذا نجد ـ بناءً على هذه النظرة الفلسفية ـ أنّ معنى معرفة النفس الطبقية هو "معرفة الربح"، وهذه النظرة ستكون سبباً لأن يرى الإنسانُ العالمَ والمجتمعَ من منظاره الخاصّ، ويُفسّره تفسيراً خاصّاً، ويكون ألمه وهمّه وتحيزه وجهده الإجتماعي طبقياً4.

5ـ معرفة النفس القومية:
وهي المعرفة في صلة النفس مع الناس الذين تربطه بهم رابطة قومية وعنصرية، على أثر الحياة المشتركة بينهم، بقانون مشترك وآداب ورسوم وتاريخ ولغة مشتركة، حيث يكون للشعب الواحد "نفس" كما للفرد "نفس"، ويمكن القول إنّ معرفة النفس القومية تعني معرفة الثقافة والشخصية القومية.

إنّ هذه المعرفة وإن لم تكن من مقولة معرفة الربح ولكنّها لا تخرج عن مقولة الأنانية، ولها جميع عوارض التعصب والعجب وحبّ النفس وغضّ النظر عن عيوبها، ولذا فهي كمعرفة النفس الطبقية تفقد الجانب الأخلاقي تلقائياً.

6ـ معرفة النفس الإنسانية:
وهي المعرفة في صلة النفس بجميع الناس، وهذه المعرفة ترتكز على الفلسفة القائلة إنّ الناس يشكّلون بمجموعهم وِحدة واقعية، ويتمتّعون "بوجدان إنساني مشترك".

إنّ فلسفة الهيومانيسم (النزعة الإنسانية) التي ترى الإنسانَ فوق الطبقات والقوميات والأديان والثقافات والألوان، وتعتبره وحدةً وتنكر أيّ تمايز واختلاف، وكذا الفيلسوف "اوغست كونت" الباحث عن "دين الإنسانية"، وكذلك البيانات الصادرة عن لجنة حقوق الإنسان، تعتمد وتدعو جميعُها إلى هذا النوع من المعرفة النفسية.

ويدّعي دعاةُ هذه المعرفة أنّه إذا حصلت هذه المعرفة للإنسان فسيكون ألمه ألماً إنسانياً وسعيه وجهده وتحيّزه كلّه إنسانياً وأخلاقياً، ويصبغ حبّه وبغضه بصبغة إنسانية، فيحبّ أصدقاءَ الإنسان أي العلم والثقافة والصحّة والرفاه والحريّة والعدالة، و... ويكره أعداءَ الإنسان أي الجهل والفقر والظلم والمرض و....

وهذه المعرفة وإن كانت فوق القوميّة والطبقية وتظهر منطقيةً أكثر من غيرها، إلّا أنّها أُمنية لا واقعية، وذلك لأنّ الناس إذا وصلوا إلى مرحلة الإنسانية وشكّلوا جسداً واحداً "نحن" بالفعل عندها يمكن أن يكون الناس كأعضاء الجسد الواحد، وقد أشار الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى هذه المعرفة، لكنّه كان دقيقاً في تعبيره حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم:"مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى"5.

فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل جميع الناس بل قال "المؤمنين" والمؤمن هو من وصلت إنسانيته إلى أعلى درجات الإنسانية وعندها يمكن أن يحبّ الخير الإنساني لغيره قبل نفسه، ويكره أعداءَ الإنسانية. هذا المؤمن أمثال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي بُعث رحمةً للعالمين، والإمام عليّ عليه السلام الذي كان يقول لابن ملجم:

أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مرادي 6
لكن الواقع غير ذلك فالناس فيهم موسى عليه السلام وفرعون، وفيهم علي عليه السلام ومعاوية وابن ملجم. إذاً هذه المعرفة وهذه النظرة لا تتحقّق إلّا في مجتمع المؤمنين الواصلين إلى أعلى درجات الإنسانية.

7ـ معرفة النفس العرفانية:
وهي المعرفة في صلة النفس بذات الله تعالى، وهذه الصلة ليست كصلة الإنسان بأفراد المجتمع، وإنّما هي صلة موجودين يقوم وجود أحدهما في عرض وجود الآخر، صلة الفرع بالأصل والمجاز بالحقيقة، وحسب الاصطلاح صلة المقيَّد بالمطلق.

ويعتبر ألم الفيلسوف انعكاساً للآلام الخارجية في معرفة النفس، وألم المتنوِّر اجتماعياً يحصل بعد اطلاعه، بينما ألم العارف باطني وجداني ويكون ألمه عينَ اطلاعه كألم المريض ومعرفته به.

والفيلسوف يتألّم للحقيقة لكن ألمه لمعرفة الحقيقة والعلم بها، وينبع من فطرة المعرفة، بينما ألم العارف للوصول والذوب والاتحاد بالحقيقة، هو ألم نابع من فطرة الحبّ التي لا تستريح إلّا أن تُحلِّق لتلمس الحقيقة بكلّ وجودها، الشيء الذي لا يوجد في الحيوان ولا في الملك.

العارف يعتبر معرفة النفس التامة كامنة في معرفة الله، وإنّ ما يعرفه الفيلسوف بصورة "أنا" الإنسان الواقعي، ليس واقعياً من وجهة نظر العارف، إنّه روح نفس وتعيّن، و"أنا" الواقعي بنظره هو الله بعد كسر النفس والأنا والتعيّن.

يقول محي الدِّين ابن عربي في فصوص الحكم الفص الشعيبي: "إنّ الحكماء والمتكلِّمين قد أكثروا القول حول معرفة النفس، ولكن معرفة النفس لم تحصل عن هذا الطريق، وكلّ شخص ظنّ أنّ ما وجده الحكماء حول معرفة النفس هو الحقيقة فقد استسمن ذا ورم".

فالروح مظهر من مظاهر النفس، و"أنا" الواقعي هو الله وعندما يفنى الإنسان من نفسه ويحطّم التعيّنات ويغضّ النظر عنها لم يبقَ للروح أثر، وعندما تعود هذه القطرة المنفصلة عن البحر إلى البحر وتفنى فيه يصل الإنسان إلى معرفة النفس الواقعية، وعندئذٍ يرى الإنسان نفسَه في جميع الأشياء، ويرى جميع الأشياء في نفسه، وعندئذٍ فقط يطّلع الإنسان على نفسه الواقعية.

8 ـ معرفة النفس النبوية:
تختلف هذه المعرفة عن كلّ ما تقدّم، فإنّ النبيّ له معرفة إلهية وبشرية بالنفس، وهو متألِّم لله ولمخلوقات الله، ولا يظنّ أنّ للنبي نصف قلبٍ عند الله ونصفه الآخرعند الناس، أو إحدى عينيه إلى الله والأخرى إلى الناس، أو أنّ حبّه وأمنياته وأهدافه موزّعة بين الله ومخلوقاته، يقول تعالى في كتابه:﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ7.

والأنبياء عليهم السلام هم أبطال التوحيد ولا يوجد في عملهم أقلّ شرك، لا في المبدأ ولا في الهدف والأمنية ولا في التألُّم.
والأنبياء عليهم السلام يحبّون العالَم ذرّةً ذَرّةً بسبب أنّ الجميع منه تعالى ومظاهر أسمائه وصفاته، وإنّ حبّ أولياء الله للعالَم لمحة من حبّهم لله، لا حبّ في مقابل حبّ الله.

الأسفار الأربعة لأولياء الله
والأنبياء والأولياء في سيرهم وسفرهم التكاملي يعبرون منازل ويقطعون أسفاراً وهو ما اصطلح عليه العرفاء بالأسفار الأربعة:

1- السفر من الخلق إلى الحق
إنّ هذا الألم الذي يشعر به الأنبياء والأولياء في تكاملهم وتحرّكهم في السفر والطريق الذي يعبّر عنه "بالسفر من الخلق إلى الحقّ" لا يجعلهم يهدؤون لحظةً واحدةً حتى يوصلهم إلى قرار أمن.

2- السفر في الحقّ إلى الحقّ
وفي نهاية السير والسفر الأوّل يبدأ سفر آخر يعبّر عنه "السفر في الحقّ إلى الحقّ"، وفي هذا السفر يمتلئ ظرفهم ويفيض وينالون نوعاً آخر من التكامل، حيث يكونون في الحقّ، وإلى الحقّ، وكأنّ الحركة والتكامل دائري في الحقّ، اتحاد مطلق معه فيعطيهم من فيضه كلّ الكمالات التي يمكن الوصول إليها، وتصبح كلّ قابلياتهم فعلية.

إنّ الباعث والدافع اللذَين يظهران في نهاية السفر الثاني يكونان بمثابة ولادة معرفة نفس الناس من معرفة نفس الحقّ وولادة التألُّم للناس من التألُّم لله.

3ـ من الحقّ إلى الخلق:

والنبيّ أيضاً لا يقف في هذه المرحلة، بل بعد أن يفيض من هذه الحقيقة ويطوي دائرة الوجود ويعرف الطريق وآداب المنازل، يُبعث ويبدأ سفره الثالث من الحقّ إلى الخلق، ويبدأ الرجوع، لكن هذا الرجوع ليس بمعنى التقهقر إلى النقطة الأولى والانفصال عمّا حصل عليه، وإنّما يرجع مع كلّ ما حصل عليه ووصل إليه، لذا فهو حسب الاصطلاح "من الحقّ إلى الخلق مع الحقّ" لا بعيداً عنه، وهذه مرحلة تكامل النبيّ الثالثة.

4ـ في الخلق مع الحقّ:
ويبدأ بالرجوع إلى الخلق سفره الرابع ودور تكامله الرابع أي السير في الخلق مع الحقّ، السير في الخلق لدفعهم نحو الكمال الإلهي اللامتناهي عن طريق الشريعة، أي عن طريق الحقّ والعدل والقيم الإنسانية وإيصال القابليات البشرية اللامتناهية الكامنة إلى مرحلة الفعلية.

بين العارف والنبي
ويتّضح من هنا أنّ ما هو هدف للمتنوِّر هو للنبيّ منزل من المنازل التي يمرّ بالناس منها، كما أنّ ما يدّعيه العارف يقع في بداية طريق النبيّ، فهو عندما يصل إلى الحقّ لا يرجع، بل يبقى في ذلك المنزل ولا يرقى إلى منزل آخر، بينما النبيّ حاملٌ للشريعة والذي له دور مع الخلق لا بدّ له من الرجوع من الحقّ إلى الخلق.

يقول إقبال في هذا الصدد: "ربما لا يمكن أن توجد كلمات في جميع الأدب الصوفي تميّز معرفة النفس بين نوعي معرفة النفس النبوية والصوفية في جملة واحدة كهذه8، إنّ الرجل الباطني (العارف) لا يريد أن يرجع إلى حياة هذا العالَم من الهدوء والاطمئنان الذي يجدهما بالتجربة الاتحادية (الوصول إلى الحقّ ومعرفة النفس العرفانية). وعندما يرجع بحكم الضرورة لم يكن في رجوعه نفعٌ كثيرٌ لجميع البشرية. لكن رجوع النبيّ له جانبٌ إبداعيٌ مثمرٌ، يرجع ويرد في مجرى الزمان لغرض أن يسيطر على مجرى التاريخ ويبدع عن هذا الطريق عالَماً جديداً من كمال المتطلبات"9.

وما هو مسلّم لدينا أنّ كلّ نبي يحمل ألم الله، والألم الذي يؤذي روحه هو ألم البحث عن الله فيعرج إليه ويصعد، ويرتوي من ذلك النبع وحينئذٍ يحصل عنده ألم الناس، فإنّ تألُّم النبيّ للناس يختلف عن تألُّم شخص متنوِّر للناس، لأنّ ألم المتنوِّر عاطفة بشرية ساذجة، انفعال وتأثُّر، وربما يعتبر ضعفاً بنظر بعض الأشخاص أمثال "نيتشه"، لكنّ ألم النبيّ ألم من نوع آخر لا يشبه أيّاً من تلك الآلام، كما أنّ معرفة نفس الناس عندهم تختلف أيضاً، فالنار التي تلتهب في روح النبيّ نار أخرى.

وصحيح أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يحصل له نفوذ الشخصية قبل كلّ شخص، فإنّه يتّحد مع العالَم ويضمّ العالَم إليه، وصحيح أنّه يتعذّب من همّ الناس: ﴿لّقّدً جّاءّكٍمً رّسٍولِ مٌَنً أّنفٍسٌكٍمً عّزٌيزِ عّلّيًهٌ مّا عّنٌتٍَمً حّرٌيصِ عّلّيًكٍم بٌالًمٍؤًمٌنٌينّ رّءٍوفِ رَّحٌيم10.
﴿فّلّعّلَّكّ بّاخٌعِ نَّفًسّكّ عّلّى" اثّارٌهٌمً إن لَّمً يٍؤًمٌنٍوا بٌهّذّا لاًحّدٌيثٌ أّسّفْا11.

وصحيح أنّه صلى الله عليه وآله وسلم يتلوّع من جوع الناس وعريّهم ومظلوميتهم وحرمانهم ومرضهم وفقرهم، ويتألّم لذلك إلى حدّ لا يتمكّن أن ينام في مضجعه شبعاناً وهناك جائع في أقصى البلاد:"هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له بالقرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى وأكبادٌ حرّى"12.

ولكن يجب أن لا يحمل هذا كلّه على رقّة القلب والترحّم والعطف الساذج في مستوى مواساة الناس السذّج. إنّ عمل النبيّ من حيث إنّه بشر له جميع المزايا البشرية في اللون والشكل، ولكن بعد أن يلتهب جميع وجوده بالشعلة الإلهية تأخذ كلّ هذه الأمور صبغة إلهية.والاختلاف بين من يربّيهم النبيّ والمجتمع الذي يصنعه وبين من يربّيهم المتنوِّرون والمجتمعات التي يصنعونها كما بين السماء والأرض.

والاختلاف الرئيس أنّ النبيّ يجهد لإيقاظ الطاقات البشرية الفطرية ليلهب الشعور الغامض والحبّ الكامن في وجود الناس، ويدعو النبيّ نفسه "مذكِّراً" يبدع في الإنسان حساسية في مقابل جميع الوجود وينقل معرفته النفسية بالنسبة لكلّ الوجود إلى أمّته، ولكن المتنوِّر يوقظ ـ على الأكثر ـ الشعور الاجتماعي عند الأفراد ويطلعهم على مصالحهم القومية أو الطبقية.

الخلاصة
كلّما اتسعت معلومات الإنسان اتسعت حياته. ولمعرفته بالعالَم وبنفسه دور أساس في تحديد شخصيته وسلوكه ومستقبله، ومن هنا كان الإنسان باحثاً عن الحقيقة في كلّ الأمور.والغرب قد صبّ اهتمامه على معرفة العالَم، وابتعد عن معرفة النفس، وإذا أدلى دلوه وأعطى رأيه في معرفة النفس، فإنّها معرفة ميتة لأنّها تفتقد إلى الإيمان. بينما معرفة الأديان للنفس مختلفة تماماً فهي تلهب الشعور والوجدان حتى يستقر في قرار أمن، عند الوصول إلى الله سبحانه.
إنّ معرفة النفس على أنواع عدّة فطرية فلسفية، عالمية، طبقية، قومية، إنسانيّة، عرفانية، وأرقى من ذلك كلّه هي المعرفة النبوية.
*انواع معرفة النفس , سلسلة احياء فكر الشهيد مطهري , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

1- راجع مقدمة كتاب "هذا مذهبي".
2- سورة الحشر، الآية: 19.
3- وهو الفيلسوف الفرنسي كان في القرن السابع عشر، بدأ فلسفته بالشك في كل شيء حتى في البديهيات، لكنّه لم يشك في أنّه يفكِّر وأنّه يشك، ومن شكه وتفكيره أثبت وجوده واستنتج وجود الله
وسائر الأشياء.
4- يمكن تسمية هذا النوع من المعرفة بمعرفة النفس الماركسية.
5- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج109، البال الثالث والأربعون، ص173.
6- أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص18.
7- سورة الأحزاب، الآية: 4.
8- إشارة إلى كلمة أحد شيوخ أهل الطريقة وهو عبد القدوس جنجهي عندما كان يتحدث عن ذهاب الرسول في المعراج إلى السماء ورجوعه قال: "أقسم بالله لو كنتُ أنا الواصل إلى تلك النقطة لم أرجع أبداً".
9- إقبال اللاهوري، إحياء الفكر الديني في الإسلام، ص143 ـ 144.
10- سورة التوبة، الآية: 128.
11- سورة الكهف، الآية: 6.
12- نهج البلاغة، من كتابه عليه السلام إلى وليه عثمان بن حنيف.

القيادة في الإسلام

القيادة في الإسلام

امامة
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنّ‏َ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين)1.

الرشد في المصطلح الإسلامي

قبل الدخول في بحث القيادة في الإسلام من المناسب أن نتعرّض لمفهوم الرشد ومن ثمّ لمفهوم الإمامة.

1- الرشد

لقد استعمل القرآن الكريم اصطلاح الرشد في حقّ الأطفال الذين يمتلكون ثروة ولكن لا قيّم لهم، فذكر أنّه لا بدّ من جعل قيّم ووليّ عليهم حتى يبلغوا الرشد بعد تجاوزهم سنّ‏َ البلوغ، فقال تعالى: (وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ انَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)2.
تعريف الرشد
"الرشد عبارة عن نوع من الكمال الروحي والمعنوي، بمعنى أن يكون للإنسان قدرة على الإدارة والمحافظة على طاقاته المادية والمعنوية، وحسن الاستفادة منها"، وهذا التعريف يشمل جميع أنواع الرشد الأخلاقي منه والاجتماعي، ولتوضيح هذه الفكرة نذكر المثاليين التاليين:
أ- إدارة الذاكرة، لقد أودع الله تعالى في الإنسان قوىً إدراكية، من فهم وإدراك وحفظ وذاكرة، والإنسان الرشيد هو الذي يمكنه الاستفادة الصحيحة منها، فينظر في الأمور أيّها مفيد بل وأيها أكثر فائدة، ثمّ يتخيّر الترتيب العلمي الصحيح لحفظها ووضعها في الذهن، ومن ثمّ يحافظ عليها، أما غير الرشيد فهو من يتعامل مع ذاكرته مثلا كمستودع لكل ما يقع في طريقه، فلا ينتفع من هذه العطايا الإلهية بشكل صحيح، فمن يقرأ كتاباً ما لا يمكنه أن يحتفظ بمحتويات هذا الكتاب من قراءةٍ واحدةٍ، بل عليه أن يقرأه مرّة ثانيةً على التوالي، ثم يفكّر في كلّ فكرةٍ وردت فيه، ويحلّلها ويحقّقها، وبعد الانتهاء عليه أن يلخّصها ويودعها ذاكرته، ثمّ يقرأ كتاباً اخر من نفس الموضوع حتى لا يمتلىَ ذهنُه بمواضيعَ متعددة بصورةٍ غير منظمة، فتختلط عليه الأفكار.
ب- الرشد في العبادة: إن العبادة الصحيحة هي التي تجذب الروح وتغذّيها، وليست الكثرة هي المقياس للعبادة، تماماً ككثرة الطعام ليس هو مقياس غذاء الجسم، وإنّما المقياس هو تلاۆم الروح مع العبادة، وتحقّقها عن رغبةٍ وشوقٍ، وأي إكثارٍ في العبادة من دون شوقٍ قد يۆدي إلى ردّات فعلٍ عكسيّة لا تُحمد عُقباها، وهكذا يخاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم علي عليه السلام: "يا علي، إنّ هذا الدينَ متين، فأوغل فيه برفقٍ، ولا تُبغِّض إلى نفسك عبادة ربّك"3، فلا بدّ من ممارسة العبادة بشكلٍ تميل معها النفس تدريجاً إلى العبادة، لا أن تتنّفر من العبادة، "فإنّ المُنبِت4 لا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع"5.
فالممارسة الصحيحة للعبادة والاستفادة منها لها علاقة وثيقة بحسن إدارة الإنسان لنفسه، لأن القلب والمشاعر والأحاسيس وكل القوى الإدراكية بحاجة إلى إدارةٍ وقيادةٍ رشيدة وحكيمة.

2- الإمامة والقيادة

عندما يكون موضوع الرشد هو قيادة وإدارة الآخرين يطلق عليه (الهداية) أو (الإمامة)، ولعلّ أفضل لفظٍ يعبّر عن الإمامة هو القيادة، مع فارقٍ بين النبوّة والإمامة أيضاً، حيث إنّ النبوة هي إراءة وكشف الطريق، بينما تتعدى الإمامة ذلك لتتحمّل مسۆولية القيادة للأمّة، فيقوم بعض الأفراد بمهمّة تعبئة القوى الإنسانية وتنظيمها وتدفعها إلى العمل، وكثير من الأنبياء لاسيما العظام منهم جمعوا بين الميزتين، أي بين النبوة (كشف الطريق) والإمامة (القيادة).

إبراهيم عليه السلام القائد الإمام

لقد ابتلى اللهُ النبيّ‏َ إبراهيم عليه السلام بكثيرٍ من المصاعب والإمتحانات، فقد واجه بمفرده تلك الإنحرافات العقائدية والخرافات السائدة آنذاك، فحطّم الأصنام وواجه نمرودَ وأتباعَه قاطبةً، وفي خِضَمّ هذه المِحن القاسية يطلب منه الله سبحانه أن يذبحَ ابنه إسماعيل عليه السلام بيده، وعندما أسلما وانقادا لأمر الله سبحانه وتجاوز كلّ هذه المحن بنجاحٍ وإيمانٍ ثابت، عندها أُعطي مقام الإمامة،(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنّ‏َ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً)6، فهذه الإمامة وقيادة البشر في البُعد الإجتماعي والمعنوي هي أرفع مقام يمكن أن يمنحه الله للإنسان، وقد حاز أئمتنا عليهم السلام على هذا المقام الرفيع وإن لم يكونوا أنبياء، إلا أنهم يسيرون على نفس طريقهم، ويعبئون القوى، ويدعون الناس إلى نفس الرسالة التي دعا إليها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

أصول القيادة

والقيادة التي يبحث عنها القرآن الكريم هي الزعامة المتجهة نحو الله تعالى في بعديها الاجتماعي والمعنوي، بخلاف ما يفهمه البشر في العالم المعاصر من القيادة بأنّها مجرّد زعامة اجتماعية، لأنّه يحتاج إلى القيادة بطبيعته، وقيمة هذه القيادة تبتني على ثلاثة أصول:
1- أهميّة الإنسان والقوى المودعة فيه
فقد اهتم القران الكريم بتوجيه الإنسان إلى معرفة نفسه، وما أودع له الله من قوى كبيرةٍ كامنةٍ فيه، فهو أعرف من
الملائكة بالأسماء ممّا جعلها تسجد له، وهو أرفع الموجودات جميعاً، كلّها مسخرة لخدمة مصالح الإنسان (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)7، و(أَلَمْ تَرَوْا أَنّ‏َ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)8.
2- قيادة الغرائز المودعة في الإنسان والحيوان
فالإنسان يختلف عن الحيوان من حيث الغرائز وطبيعتها، وهو أضعف منها في هذا المجال، فالحيوانات مجهزة بمجموعةٍ من الغرائز تُسيِّرها وتقودها وتنظِّم لها حياتها، فهي لا تتعدّاها، إلا أن الإنسان ليس كذلك، فهو من جهة يمتلك قوى أكبر وأكثر من الحيوانات، لكن لم يودع الله فيه غرائز كثيرةً جداً، وإنما ألقى على عاتقه قيادة نفسه، فالإنسان يفتقر إلى الغرائز الداخلية التي تقوده، ولذلك احتاج للموجِّه الخارجي، وهذه فلسفة بعثة الأنبياء عليهم السلام، فإنهم بعثوا لأجل تربية هذه الغرائز، وتعريف الإنسان على النفائس المكنونة في أعماقه، وكيف يستخدمها ويستفيد منها بالشكل الصحيح، ومن ثم توجيه الإنسان والقوى البشرية لتسير على الطريق المستقيم، ويحثونه على الحركة والعمل، وبالتالي تتحقق القيادة الحكيمة للقوى البشرية.
3- القوانين الخاصة في الحياة البشرية
هناك مجموعة من القوانين والأصول الحاكمة على سلوك الإنسان وتصرفاته، والذي ينصّب نفسه قائداً وزعيماً للبشر عليه أن يتعرّف على هذه القوانين الحاكمة، لأنها مفتاح السيطرة على قلوب الناس، فيرسم لهم طريق العمل بها ويحثَّهم على الاستفادة منها بالشكل الصحيح، وتعبير القرآن الكريم بحقّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مثير للدهشة حيث يقول: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيّ‏َ الْأُمِّيّ‏َ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلّ‏ُ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)9، فهذه الأثقال ليست إلا التقاليد والخرافات، وهذه الأغلال ليست إلا عادات روحيّة تكبّل استعداداته وطاقاته المعنوية الزاخرة التي أدّت به إلى الجمود والشقاء واليأس، ويأتي دور النبي بالقيادة من بُعدها الاجتماعي ليطلق سراح هذه القوى المقيَّدة، ويبثّ فيها النشاط والحيوية، ويأخذ بيدها في المسار الصحيح، فيجعل من أضعف الشعوب، بسبب القيادة الحكيمة، أمّة قويّة لا يفوقها قوّة.
الشهيد مرتضى مطهري
_________
1- البقرة،:124.
2- النساء:6.
3- الكافي، ج‏2، ص‏87.
4- المنسبت هو الذي يضرب الجمل ويخشن في التعامل معه، فلم يقدر على قطع المسافة المطلوبة وفي نفس الوقت قضى على الجمل من الضرب.
5- الكافي، ج‏2، ص‏87.
6- البقرة:124.
7- البقرة:29.
8- لقمان:20.

9- الأعراف:157.